مع بداية عام 2022 ساد الاقتصاد العالمي توقعات عديدة لما ستؤول إليه أحوال العديد من المؤشرات العالمية والمحلية لبعض الدول. فمثلًا توقع العديد من الخبراء أن يكون التضخم مؤقتًا وماهي إلا مسألة وقت حتى يتراجع!، وأن انتعاش الاقتصاد الأوروبي سيكون أقوى مماهو عليه انتعاش الولايات المتحدة! وبالطبع شملت التوقعات أن الصين ستستعيد عافيتها بعد كارثة كوفيد-19 وتعود إلى النمو بقوة!. لكن ماذا حدث بالفعل؟
ارتفع معدل التضخم أكثر من قبل، اندلعت أزمة طاقة في أوروبا وحلّقت أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء العالم وكل هذا بسبب الحرب الاوكرانية-الروسية. وفي الصين قادت سياسة صفر-كورونا المطبقة من قبل الحكومة الصينية إلى تقييد اقتصاد البلد العملاق. هل توقعاتنا كانت تفتقر إلى الواقعية؟ أم أن شيئًا ما لم يكن بالحسبان؟ لفهم أكبر لماحدث في عام 2022 للاقتصاد العالمي، سنأخذكم في جولة على أهم المحطات التي استوقفت مسار النمو الاقتصادي العالمي في عام 2022 الذي يصفه البعض ب”الكارثي“.
الأسهم العالمية
نعم كغيرها من الاخفاقات فقد انخفضت الأسهم العالمية بمقدار 14 تريليون دولار، ولم تكتفي بذلك! فهي الآن تتجه نحو ثاني أسوأ عام لها على الإطلاق! طبعا لاننسى زيادات أسعار الفائدة المتتابعة! ولكن ماذا عن الأسباب الأخرى؟ نعود لنربط هذه التراجعات بالحرب الأوكرانية-الروسية إلى جانب التضخم المتزايد بالتزامن مع خروج الاقتصادات العالمية من الوباء ماعدا الصين التي على مايبدو بدأت بالتعايش مع الفيروس!.
دراما كوفيد-19
كورونا وماسببه للعالم يأبى أن يستسلم ويترك العالم بسلام! ما الحل؟ الجواب كان في عام 2022 الذي خضعت فيه أغلب دول العالم للوباء وتعايشت معه. بمعنى عندما لاتستطيع قهر عدوك احرص على أن تتعايش مع وجوده. في الوقت الحالي تستمر أعداد حالات الإصابة بفيروس كوفيد-19 في الارتفاع مع زيادة سنوية في الحالات بلغت نسبة 75٪ تقريبًا في عام 2022. أما الوفيات فقد انخفضت بشكلٍ حادٍّ بنحو 67٪ مقارنة بعام 2021. وفي الوقت نفسه لا يزال وباء كورونا أحد الأزمات العالمية الأساسية التي تحرك اقتصادات الدول، ناهيك عن الحرب الروسية في أوكرانيا توقعات ركود عالمي محتمل.
وفي دراسة منشورة مؤخرًا من قبل المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في الولايات المتحدة، يتبين أن COVID-19 يواصل التأثير على الإنتاجية الاقتصادية. حسب الدراسة أدى امتناع الناس من الاقتراب من الآخرين إلى انخفاض مشاركة القوى العاملة بنسبة 2.5٪ في النصف الأول من عام 2022. وبالتالي تُرجِم هذا إلى ما يقرب من انخفاض قدره 250 مليار دولار في الناتج المحتمل.
وأخيرًا وليس آخرًا ننتقل إلى الصين، حيث يظهر التأثير الكاسح لـ COVID بشكل بارز التي هزتها في الأسابيع الأخيرة احتجاجات هي الأكثر انتشارًا منذ عقود. والتي كان سببها الإجراءات القسرية التي تتبعها الحكومة الصينية في حربها ضد كوفيد-19 بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من الإغلاقات الدورية وتراجع النمو الاقتصادي.
الحرب ضد التضخم
اجتاحت ضغوط التضخم كل مكان حول العالم تقريبًا، حيث تعاني معظم الشركات في الاقتصاد العالمي من ارتفاع تكاليف الطاقة والنقل والعمالة. وكما لاحظنا هذا العام فقد كان للولايات المتحدة النصيب الأكبر من الضغوط التضخمية من عام 2022. ونذكر بالدرجة الثانية منطقة اليورو، وبدرجة أقل من الاثنين تأتي اليابان.
المستويات التي وصل لها التضخم تعادل ضعف تلك المستهدفة من قبل البلدان المعنية بالتضخم. حيث يُظهر أكثر من نصف العناصر في مؤشر الأسعار تضخمًا أعلى من 4٪ في كل من: المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، ومنطقة اليورو. مما يعكس زيادة حادة مقارنة بالعام السابق.
هذا وتجتمع عدة عوامل على تعزيز الأجور ودعم تخفيف فقدان القوة الشرائية والنمو، ومن هذه العوامل:
- ظروف سوق العمل الصارمة.
- معدلات البطالة: التي انحدرت إلى أدنى مستوياتها في 20 عامًا أو قريبة منها في العديد من البلدان.
يقدم كلّ ماسبق خدمة مجانية للتضخم ليستمر في الزيادة. وفي نفس السياق تعززت زيادة الأجور في كل من:
- الولايات المتحدة.
- كندا.
- المملكة المتحدة.
أما في منطقة اليورو فلاتزال الأمور على حالها!. هل تتجه منطقة اليورو إلى منطقة الخطر في عام 2023؟ سننتظر العام القادم لنعرف ذلك!
هل يستمر التضخم؟
من المتوقع أن يضل التضخم إلى ذروته لهذا الربع من العام مع تحول الدورة الاقتصادية العالمية وزيادة سياسة التشديد النقدي من قبل معظم البنوك المركزية الرئيسية. بالمقابل تشير التوقعات إلى اتجاه التضخم للانخفاض طوال عام 2023 في معظم دول مجموعة العشرين. بالرغم من ذلك، سيبقى التضخم السنوي في عام 2023 أعلى بكثير من أهداف البنك المركزي في كل الاقتصادات تقريبا.
على اعتبار أن الولايات المتحدة أكثر المتضررين من التضخم وتبعاته فهي أكثر من يحاربه. ومن المتوقع أن تصل الولايات المتحدة العام القادم إلى هدفها في إعادة التضخم إلى المستوى المستهدف. حيث بدأت حربها ضد التضخم بتشديد السياسة النقدية في وقت مبكر. على النقيض من نظيراتها في كل من منطقة اليورو أو المملكة المتحدة اللتان على مايبدو ستبقيان تحت وطأة التضخم لفترة أكبر بسبب كثير من العوامل، منها:
- الارتفاع الأخير في تكاليف الطاقة التي أنهكت الاقتصاد الأوروبي.
- التأخر في تشديد السياسة النقدية مقارنة بالولايات المتحدة.
وبالنتيجة، من المتوقع أن يبقى التضخم الرئيسي والأساسي مرتفعًا في معظم أنحاء منطقة اليورو.
أما بالنسبة للتضخم في اقتصادات الأسواق الناشئة الرئيسية فتختلف الصورة اختلافًا كبيرًا. على سبيل المثال، التضخم في الصين منخفض ومستقر. بينما في كل من البرازيل والمكسيك من المتوقع أن تنحسر الضغوط الكبيرة نحو المستويات المستهدفة مع بدء عملية رفع أسعار الفائدة. وأخيرًا، من المتوقع أن تستمر معدلات التضخم المرتفعة في كل من تركيا والأرجنتين في العام القادم 2023.
الاقتصاد العالمي
كلنا قد شهدنا تأثير الحروب على الاقتصادات العالمية وخاصة الضعيفة منها. لطالما كانت الحروب سببًا في تراجع الاقتصادات وهذا نلاحظه من خلال الحرب الروسية الاوكرانية الاخيرة. فقد كانت توقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) قبل هذه الحرب (في ديسمبر من عام 2021) إيجابية. أما الآن، من المتوقع أن يتباطأ النمو العالمي في عام 2023 إلى نمو سنوي يبلغ 2.2٪ فقط.
في نفس الصدد، من المتوقع الآن أن ينخفض الناتج العالمي المحلي الإجمالي بحوالي 2.8 تريليون دولار أمريكي على الأقل في العام المقبل. نلاحظ معدلات النمو المتباينة بين الدول في المخطط التالي:
مرةً أخرى نُرِجع مسألة تباطؤ النمو العالمي إلى التشديد العام للسياسة النقدية من قبل البنوك المركزية، والتي يدعمها تزايد التضخم. بالطبع لاننسى تأثير عمليات الإغلاق الصارمة الصينية ضمن سياسة صفر COVID-19 على الاقتصادين الصيني والعالمي. حيث سببت الإغلاقات تراجع سوق العقارات وتباطؤ نمو الصين إلى 3.2٪ فقط في عام 2022. كل شيء مرتبط ببعضه أليس كذلك؟ وكأن العالم عبارة عن شبكة فروعها شديدة الاتصال ببعضها!.
في الأسواق الناشئة
تباينت تأثيرات أزمات عام 2022 في أوساط الدول الناشئة. لنلقي نظرة سريعة على البعض منها:
- في تركيا هبطت الليرة التركية 28% نتيجة مشاكل السياسات النقدية والتضخم. لكن من جهةٍ أخرى، سوق الأسهم التركية هو الأفضل أداءً في العالم!.
- مصر: انخفضت قيمة الجنيه المصري بنسبة 36% نتيجة تعرض مصر لضغوط شديدة.
- غانا: انخفض السيدي الغاني بنسبة 60٪ بعد انضمامه إلى سريلانكا في حالة تخلف عن سداد الديون.
- روسيا: بالرغم من انخفاضه بشكل كبير عن أعلى مستوياته في يونيو، لا يزال الروبل الروسي ثاني أفضل العملات أداءً في العالم بدعم من ضوابط رأس المال والضرائب في موسكو.
اقتصاد المملكة المتحدة
في بريطانيا تعرض الجنيه الاسترليني لنكسات كبيرة. حيث ارتفعت عوائد سندات الخزانة لأجل عشر سنوات بأكثر من 100 نقطة أساس. كما خسر الجنيه 9٪ في غضون أيام. هكذا تحركات لاتحدث إلا نادرًا في الأسواق الكبرى.
عمالقة التكنولوجيا
لم تسلم كبرى الشركات التكنولجية من الرياح العاتية لعام 2022 فقد تعرض كل من Facebook (NASDAQ: META) و Tesla (NASDAQ: TSLA) لنزيف أكثر من 60 ٪ بينما انخفض كل من Alphabet (NASDAQ: GOOGL) و Amazon (NASDAQ: AMZN) بنسبة 40٪ و 50٪ على التوالي. وبالمجمل استُنزِف سوق التكنولوجيا بمايقارب 3.6 تريليون دولار.
الأسهم الصينية
بعد ثلاثة سنوات من الحرب ضد كورونا وتأثر الاقتصاد العملاق بتداعيات الفايروس، شهدت الأسهم الصينية ارتفاعًا متأخرًا بفضل اللإشارات المعلنة بأن أيام سياسة صفر فيروس كورونا المستجد أصبحت معدودة. لكن لا تزال الأسهم منخفضة بنسبة 25٪ وأن الدين الصيني الحكومي في الأسواق الناشئة “بالعملة الصعبة” سيسجل أول خسارة متتالية على الإطلاق.
الموارد الطبيعية:اسعار النفط والغاز
يعتبر ارتفاع اسعار الغاز الطبيعي بأكثر من 50٪ هو الأفضل بشكل عام في السوق. يرجع ذلك إلى حد كبير إلى الحرب في أوكرانيا التي رفعت الأسعار بنسبة 140٪ في مرحلة ما وهو تأثير إيجابي من رحم الكارثة.
لكن من جهةٍ ثانية، مخاوف الركود المتزايدة إلى جانب خطة الغرب لوقف شراء النفط الروسي وتحديد سقف الأسعار تعني أن خام برنت قد أعاد نسبة الـ 80٪ التي حققها في الربع الأول من العام. وكذلك الأمر بالنسبة للقمح والذرة.
انخفاض أصول العملات المشفرة بأكثر من 2 مليار دولار
كان سوق العملات المشفرة بمثابة فوضى عارمة هذا العام مع إفلاس FTX و تراجع بيتكوين ناهيك عن فقدان سوق التشفير 0.5% من قيمته في 24 ساعة يوم 19 ديسمبر الحالي. شهدت كبرى العملات الرقمية بيتكوين هذا العام فقدان 60٪ من قيمتها. أما بالنسبة لسوق التشفير العام فقد تقلص بمقدار 1.4 تريليون دولار، بعد انهيار إمبراطورية Sam Bankman-Fried’s FTX وانتهاء terraUSD و Luna.
وفي التفاصيل الأكثر دقة، على مدار العام الماضي انهارت القيمة السوقية لأصول العملات المشفرة من 3 تريليونات دولار لتصل لحوالي 850 مليار دولار. حيث انخفضت عملة البيتكوين الأكثر شهرة من 68000 دولار إلى 17700 دولار. أما بورصة العملات المشفرة FTX فقد انهارت من قيمة بلغت 32 مليار دولار إلى الإفلاس في غضون أسبوع واحد. في الحقيقة كشفت هذه التقلبات والانهيارات المتتابعة عن حاجة ملحة لحماية أصول العملاء.
ولايخفى على أحد حقيقة صعوبة استعادة الأصول المشفرة قيمتها الكاملة على الأقل في الوقت القريب. ومن جهة ثانية، من الواضح أن تنظيم العملات المشفرة بحاجة إلى التشديد فيما يتعلق بالتعامل مع عدم الاستقرار المالي وخاصة المفاجئ منه. في حصيلة ناتجة عن استكشاف مركز GeoEconomics لشرعية العملات المشفرة في مجموعة الدول العشرين (G20) الأعضاء وست دول أخرى، تبين أن العملات المشفرة قانونية في ثلاثة عشر دولة. لكنها محظورة جزئيًا في تسعة. وممنوعة بالكامل في ثلاثة دول.
كما وجدت الدراسة أن في 88 في المائة من البلدان التي تم استطلاعها، كانت لوائح تنظيم التشفير قيد الدراسة. في الولايات المتحدة هناك عدد من المقترحات التشريعية قيد الدراسة حاليًا. ويجري دراسة النقطة الأهم: أيّة سلطة تنظيمية يجب أن تملك سلطة قضائية على الأصول المشفرة؟.
45 مليون شخص سيواجه المجاعة
ربما مسألة المجاعة من أقل المشاكل التي تطفو على سطح الاهتمام العالمي حديثًا مع تركيز الغالبية على الأسهم والعملات المشفرة وغيرها من المؤشرات الاقتصادية. لكن أليس من المهم إعطاء المجاعة قدرًا مسويًا من الاهتمام؟ أليس من حق الفقراء حول العالم أن يُسمع صوتهم بوضوح ويتم الاعتناء بهم؟
أرقام مخيفة تنتظر العالم في عام 2023. من المتوقع أن يواجه 45 مليون شخص المجاعة بحلول نهاية عام 2022. كما هي العادة، أدت سلسلة الاضطرابات الاقتصادية حول العالم إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية عالميًا لمستويات هي الأعلى على الإطلاق في عام 2022. كيف انعكس هذا على الناس؟ للأسف تم كبح قدرة الأسر بشدة على دفع تكاليف المعيشة: الغاز، التدفئة، الطعام، المسكن.
قادت الحروب وأزمة كورونا إلى تعطل سلاسل التوريد لعام 2021 والذي قاد بدوره لزيادة تكاليف النقل للعناصر الغذائية بشكل كبير وبالتالي زيادة الأسعار. كما لاننسى تأثير الحرب الروسية-الأوكرانية في بداية عام 2022 التي أدت لاختفاء كميات كبيرة من المواد الغذائية من السوق العالمية بين عشية وضحاها.
حظر تصدير الحبوب من قبل المنتجين الرئيسيين، و ضعف عملات الدول النامية، وتزايد التضخم جميعها عوامل أدت إلى تفاقم مشكلة انعدام الأمن الغذائي في مناطق واسعة من العالم.
اقرأ أيضًا: الدول الفقيرة تنفق عشر دخلها على الديون الخارجية
وكي تزداد الأمور سوءًا، يلوّح خطر اقتراب حدوث ركود عالمي في عام 2023 بالضغط على مئات الملايين من الناس الذين يكافحون من أجل تلبية احتياجاتهم الإنسانية الأساسية من الطعام واللباس. فهل تقضي الأزمات الاقتصادية العالمية على أحلام هؤلاء بحياةٍ أفضل؟
خلاصة
أخيرًا وليس آخرًا، وكماهي العادة وفي كل الأوقات فإن المعارك السياسة هي المحرّك الأول الأساسي لكل الأزمات الاقتصادية عالميًا. ومن هنا يمكن القول أنه لا يمكن للأرقام والإحصائيات أن تخبرنا بالقصة الكاملة. لكن ما نعرفه ومن المؤكد أنه في حال استمرار الحروب والاضطرابات العالمية ستنجرّ الاقتصادات العالمية لمزيد من التخبط وعدم اليقين. ويبقى السؤال: من هو الخاسر الأكبر في حرب الاقتصاد؟ ومن هو المستفيد الأكبر من استمرار الأزمات الاقتصادية؟ أسئلةٌ صغيرة الحجم بكلماتها، لكن تحمل في طياتها الكثير من الغموض. أما عن الأجوبة! فربما تحتاج لصفحات من الكتابة.