يشكل الوضع الاقتصادي الروسي موضوعًا بالغ الأهمية على الساحة الدولية في السنوات الأخيرة، لا سيما في ظل استمرار الأزمة بين روسيا وأوكرانيا. حيث يواجه الاقتصاد الروسي تحديات كبيرة خلال الحرب تسببت في خسائر بشرية وعسكرية فادحة لكلا الطرفين، وأدت إلى أزمات اقتصادية وسياسية عالمية.
وسنسلط الضوء في هذا المقال على أبرز ملامح الوضع الاقتصادي الراهن في روسيا، كما سنقدم أبرز التحليلات حول كيفية صمود هذا الاقتصاد في وجه العقوبات الدولية، وما هي آفاق مستقبل الاقتصاد الروسي في ظل استمرار الأزمة مع أوكرانيا.
الوضع الاقتصادي الروسي في ظل الأزمة مع أوكرانيا
بعد غزو روسيا لأوكرانيا مباشرة في فبراير/شباط 2022، انكمش النشاط الاقتصادي بنسبة 4.4% (كم هو موضح في الرسم البياني أدناه). وكانت البلاد على وشك الدخول في أزمة مالية حيث اصطفت الأسر في طوابير لسحب النقود من البنوك. وفقد الروبل أكثر من 40% من قيمته الخارجية في غضون أيام قليلة. وأدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى 20% وإدخال ضوابط رأس المال إلى استقرار الوضع في الأسواق المالية، وبدأ الاقتصاد بشكل عام في التعافي.
في ربيع عام 2024، ارتفع الإنتاج في الصناعات المرتبطة بالحرب بنحو 60% مقارنة بخريف عام 2022، عندما بدأ في النمو بسرعة فائقة. وفي الوقت نفسه، ظل الإنتاج في قطاعات التصنيع الأخرى ثابتًا. فقد زادت القيمة المضافة للقطاعات الاقتصادية من عام 2021 إلى عام 2023 بشكل كبير في عدة اتجاهات وهي:
- الإدارة العامة بما في ذلك الجيش.
- والبناء بما في ذلك الاستثمار في العقارات والإسكان والبنية التحتية في الشرق الأقصى الروسي لخدمة السوق الصينية.
- وفي التصنيع في القطاعات الفرعية المرتبطة بالحرب مثل تصنيع المعادن الثقيلة والمركبات وغيرها.
وقد أثرت العقوبات على الإنتاج، لكن روسيا تمكنت من الوصول إلى مكونات كافية، حتى وإن كانت بأسعار أعلى وعلى حساب الإنتاج المدني، للحفاظ على استمرار إنتاجها العسكري.
التحديات التي يواجهها الوضع الاقتصادي الروسي الحالي
على الرغم من استمرار الحرب في أوكرانيا، تواجه بعض المجالات الأخرى من الاقتصاد الروسي تحديات كبيرة تضع الكرملين في وضع صعب بغض النظر عن نتيجة الحرب. وأبرز هذه التحديات:
- تعاني مدينة موسكو من نقص حاد في العمالة، حيث هرب أو جُرّ الكثير من المهنيين الشباب إلى الحرب، مما أدى إلى نقص في حوالي 5 ملايين عامل وارتفاع في الأجور.
- كما ارتفع معدل التضخم إلى 7.4٪، أي ضعف الهدف المستهدف للبنك المركزي البالغ 4٪.
- وشهدت البلاد انخفاضًا في الاستثمار الأجنبي المباشر بنحو 8.7 مليار دولار خلال الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2023.
- إضافةً إلى ذلك، تجنب البلدان الغربية التعامل التجاري مع روسيا منذ بداية الحرب في عام 2022، مما قد يؤدي إلى إعاقة النمو الاقتصادي الروسي على المدى الطويل.
العقوبات الاقتصادية على روسيا
تخضع روسيا للعقوبات منذ عام 2014 عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم وأرسلت قواتها إلى دونباس. وقد أدى الغزو الشامل إلى جولات عديدة من العقوبات من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والمملكة المتحدة والعديد من الحلفاء الآخرين. وفي خطوة مفاجئة، جمدت الدول الغربية الأصول الدولية لبنك روسيا التي تم استثمارها في ولاياتها القضائية في 24 فبراير 2022. ويُقدر أن هذه الأصول المجمدة بلغت قيمتها حوالي 300 مليار دولار. وفي 21 مايو 2024، قرر الاتحاد الأوروبي استخدام العائدات (حوالي 3 مليارات يورو) من هذه الأموال المجمدة لدعم أوكرانيا.
استقرار الوضع الاقتصادي الروسي بعد العقوبات الغربية
استقر الاقتصاد الروسي بعد التأثير الأولي للعقوبات الغربية، لكنه أصبح الآن أكثر اعتمادًا على أسعار النفط. ويوجد مُعسكَرين في روسيا والغرب، أحدهما يرى أن الاقتصاد الروسي على وشك الانهيار، والآخر يزعم أن العقوبات في الواقع قد جعلت روسيا أقوى والحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك.
تجاوزت مؤشرات الاقتصاد الروسي في عام 2023 التوقعات، حيث نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.6% بعد انكماش بنسبة 1.2% في عام 2022. ويتوقع صندوق النقد الدولي نموًا متزايد في العام الحالي 2024.
وبالتأكيد حدّت العقوبات من تطور الاقتصاد الروسي، لكنها في الواقع حمت الاقتصاد من بعض الصدمات الخارجية. ويُدفَع النمو بعوامل مثل آليات السوق الحر والإنفاق الحكومي المتزايد والصناع الاقتصاديين المؤهلين والتجارة مع الصين والهند. ومع ذلك تشكل أولويات الكرملين للجهد الحربي على النمو الاقتصادي مخاطر كبيرة.
هل فشلت العقوبات الغربية في التأثير على الاقتصاد الروسي؟
على الرغم من العقوبات المدمرة والمنهكة التي فرضت على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا في عام 2022، فإن الاقتصاد الروسي ما زال ينمو. ويتوقع صندوق النقد الدولي نمواً اقتصادياً لروسيا للأعوام القادمة. أدت العقوبات إلى اضطراب أجزاء من الاقتصاد الروسي، لكن البلاد وجدت طرقاً لاستعادة العديد من آليات التشغيل والتكيف والتحايل على العقوبات بعدة طرق. وأبرز هذه الطرق:
- إعادة توجيه صادرات النفط من أوروبا إلى الصين والهند.
- تطوير أسواق جديدة في الشرق والجنوب العالمي.
- زيادة التجارة مع الصين، التي أصبحت حبلاً ناجياً للاقتصاد الروسي.
أشار بعض المحللين إلى أن العقوبات لم تفشل في الواقع. حيث أوقعت روسيا في حالة من الخلل لفترة معينة، مما أجبرتها على إيجاد طرق للتحايل ولكن التأثير طويل الأمد لا يزال غير مؤكد. ففي المستقبل، قد يؤدي تهديد فرض عقوبات ثانوية جديدة على البنوك الأجنبية التي تساعد في معاملات روسيا إلى خلق مجموعة جديدة من المشاكل وقد تؤدي إلى أزمة مالية في روسيا بحلول الخريف.
كيف صمد الاقتصادي الروسي في وجه العقوبات الغربية
على الرغم من العقوبات الغربية، صمد الاقتصاد الروسي بشكل جيد. وقد أوضح الخبراء في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي ثلاثة أسباب رئيسية لذلك:
- كان النظام المالي الروسي مستعدًا لمواجهة العقوبات المصرفية والمالية، مستفيدًا من الدروس المستفادة بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014.
- تمكنت روسيا من تحقيق إيرادات ضخمة من تصدير النفط والغاز في عام 2022 بسبب تأخر القوى الغربية في استهداف موارد الطاقة الروسية، على الرغم من ارتفاع أسعارها.
- لم تكن قيود التصدير الغربية فعالة بما يكفي لمنع روسيا من الحصول على السلع اللازمة لإنتاجها العسكري من خلال دول ثالثة.
ومع ذلك، تمت الإشارة إلى أن بيئة الاقتصاد الكلي الروسي قد تدهورت بشكل كبير بسبب العقوبات، مما أدى إلى انخفاض عائدات صادراتها من النفط والغاز في عام 2023 مقارنة بالعام السابق. وأضاف أن البنك المركزي الروسي رفع سعر الفائدة الرئيسي إلى 16% للحد من التضخم المتصاعد.
ما هو مدى قدرة الوضع الاقتصادي الروسي على الصمود؟
توجد العديد من التساؤلات بشكل عام حول مدى قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود في مواجهة العقوبات الدولية الموجهة ضده بسبب الحرب في أوكرانيا. وفيما يلي أبرز النقاط الهامة حول الإجابة على هذا السؤال:
- يرى بعض الخبراء والمحللين أن موارد روسيا الهائلة لا سيما في مجال الطاقة والسلع الأساسية، ما زالت ذات أهمية للأسواق العالمية. وبالتالي، فإن قدرة روسيا على الصمود قد تكون أكبر مما يتوقع البعض.
- من ناحية أخرى، توجد تحذيرات من أن الإنفاق العسكري الضخم قد يؤدي في النهاية إلى انهيار الاقتصاد الروسي. ولكن مع استمرار شراء الغرب للطاقة الروسية وصعوبة إيجاد بديل لها ستبقى تحذيرات الانهيار مجرد وهم.
توقعات الوضع الاقتصادي الروسي للأعوام القادمة
وفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي الأخير، من المتوقع أن ينمو الاقتصاد الروسي بوتيرة أسرع من الاقتصادات المتقدمة الأخرى خلال عام 2024. ففي أحدث التوقعات الاقتصادية العالمية الصادرة عن الصندوق، من المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 3.2% في عام 2024، وهو معدل نمو أعلى من المتوقع للاقتصادات الكبرى مثل الولايات المتحدة (2.7%) والمملكة المتحدة (0.5%) وألمانيا (0.2%) وفرنسا (0.7%).
قد يكون هذا التوقع مصدر قلق للدول الغربية التي سعت إلى عزل روسيا واتخاذ إجراءات عقابية بحقها اقتصاديًا بسبب غزوها لأوكرانيا عام 2022. وتُعزي روسيا هذا الأداء الاقتصادي القوي إلى مرونة الاستهلاك المحلي والاستثمار، فضلاً عن استمرار صادراتها من النفط والسلع الأساسية إلى دول مثل الهند والصين، والتي تساعدها على الحفاظ على عائدات قوية من تصدير النفط، على الرغم من العقوبات الغربية على صناعاتها الحيوية.
كما توقع صندوق النقد الدولي أن معدل النمو الاقتصادي في روسيا سوف يعتدل إلى 1.8% في عام 2025. ويعزو الصندوق هذا الانخفاض إلى تلاشي آثار الاستثمارات المرتفعة والاستهلاك الخاص القوي التي دعمت النمو في عام 2024. كما يتوقع أن ينخفض النمو نتيجة لبدء تراجع نمو الأجور في ظل تضييق سوق العمل.
هل يتحول الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد عسكري؟
تشير البيانات المتاحة إلى أن الاقتصاد الروسي يتحول تدريجياً إلى اقتصاد عسكري. ويهيمن الإنفاق الحكومي المتزايد على النشاط الاقتصادي، وتدعمه الإيرادات المرتفعة من صادرات الطاقة. وقد تغير هيكل الاقتصاد مع ضخ المزيد من الموارد في الحرب.
وكانت بعض القطاعات وبعض المناطق من بين الفائزين في الاقتصاد الروسي الجديد الموجه نحو الحرب. وينطبق هذا بشكل خاص على بعض أفقر مناطق روسيا، حيث قدمت الحرب للعديد من الناس حراكاً اجتماعياً صاعداً لم يكن متاحاً في العقود السابقة. وفي الوقت نفسه، يعمل الاقتصاد بكامل طاقته تقريباً، وبالتالي فإن الزيادات الإضافية في الإنتاج العسكري من المرجح أن تقابلها معدلات تضخم مرتفعة أو المزيد من الانخفاض في الاقتصاد المدني.
وعلاوة على ذلك، فإن النمو غير المتوازن عبر القطاعات والمناطق بسبب الإنفاق العسكري المتفجر يخلق تشوهات ليس فقط للاقتصاد الحالي ولكن أيضاً للديناميكيات المستقبلية.
في نهاية هذا المقال وبعد أن تعرفنا على الوضع الاقتصادي الروسي في ظل استمرار الأزمة مع أوكرانيا، يمكن القول أنه على الرغم من قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود أمام الحزمة الكبيرة من العقوبات الدولية المفروضة عليه، إلا أن هذا الصمود لا يعني بالضرورة أن الوضع الاقتصادي في روسيا بخير. فالآثار السلبية للأزمة على المدى المتوسط والطويل مازالت تشكل تحديًا كبيرًا أمام متخذي القرار في موسكو.